نذكر تلكم القصة الشهيرة حول د. جايكل ومستر هايد، شخصان في واحد أبدعـهما روبرت لويس ستيفنسون، الأول وديع لطيف والثاني مجرم ٌ متوحـّش! وهما يتفاعـلان ضمن ذات الجسد..
يبدو أنّ هذا مانطالعـه يومياً:
لافتة تتحدّث عـن حماية البيئة وقربها شجرة محطـّمة تنتظر وفاتها بصمت وانكسار..
إعـلان ٌ يدعـو لمنع التدخين، تحلـّق تحته ثلاث يافعـين "يحشـّشون" بشراهة!
دعـوات لاتنتهي توجـّهها الدولة للمحافظة عـلى قطرة المياه وصنبور في أحد المرافق العـامة يطربنا بسيلانه الذي لايتوقف..
حض عـلى منع للتدخين (للمحافظة عـلى رئتيك أيها المدخن السلبي)، وشاحنة تزدان بنمرةٍ خضراء تنفث سمومها لتعـوّضنا عـما فقدناه بعـد تطبيق القانون!!
لافتات تعـلن "هدوء.. مشفى"، وسيارات تحتفل بأعـراسٍ لاتنتهي بزمامير تدعـو المستمع لمشاركتهم الأفراح – بعـد منتصف الليل-؟
تجلس بغـية الهدوء في حديقة عـامة، ولايكاد ينقطع سيل المزعـجين: متسوّل لحوح، وبائع دؤوب، بائع يانصيب خمول، ويافع يعـلن عـن قهوته بطقطقة الفناجين، وماسح أحذية يثقب أذنيك بنداءآته، وهكذا تكرّ السبحة..
إعـلان (من كوكبٍ آخر) يتحدث عـن ضاحية هادئة للمدينة، تراه وأنت ذاهبٌ لبيتك تتسلق في طريقك أكواماً من القاذورات تركها المواطن الشريف، وأهملتها البلدية الرشيدة..
لن أتوقف كثيراً عـند المشاهد الحسيـّة، فهي كثيرةٌ لايمكن إحصاؤها..
في هذه السياق أذكر طرفةً عـن شخصٍ فوجئ لدى تجواله بإحدى المؤسسات الاستهلاكية العـائدة للدولة، بالابتسامة من البائع والترحيب من الموظف، والنظافة في المكان، وامتلاء الرفوف بالبضائع، فاستغـرب، وزال استغـرابه بعـد دقائق لدى اختفاء كل هذه المظاهر، وتفسير أحدهم بأنّ التصوير التلفزيوني انتهى!!
وفي تعـريف ضاحك للمستشرق أنه الغـربي الذي يبحث بأمور الشرق، أما "المستغـرب" فهو مواطننا، دوماً وأبداً !!!
ولكن هنا لي وقفة عـند بعـض الممارسات الضمنيـّة:
تجلس انتظاراً لمعـاملتك عـند موظف، فوقه لوحات تحضّ عـلى خدمة المواطن، وتهدّد بالمساءلة والعـقوبة لدى التجاوز، وفي النهاية يطالب بـ "المعـلوم"، وكلـّو مفـهـوم!!!
سيدة تفاخر بنظرتها المنفتحة لرابطة الزواج، وتقييمها البعـيد عـن المادية، ولما يقترب خطيب "الغـفلة" من ابنتها الحسناء، يـُفاجئ بلائحة طويلة من الطلبات التعـجيزية التي تقصم الظهر..
رجلٌ يتشدق بالحديث عـن النظافة، وأصبعـه لايغـادر أنفه في حركات ٍ محمومة (للوصول للنظافة المزعـومة)..
وهناك مدرّسة تحضّ عـلى الفضيلة، وممارساتها تتجاوز الرذيلة بمراحل، وما من تعـذيبٍ لضمير، ولا ألم في الوجدان..
برامج تطنب متحدثةً عـن دور الشرطة في خدمة الشعـب، وشرطة يخدمون الفار والمتستر، بإخفاء مذكرات البحث، إلى أن يأتي يوم ٌ لاينفع فيه التستر، أو التخفي..
دورية تصادر بضاعـة ممنوعـة، وأفلام مخلـّة، وتترك المجرم طليقا ً يؤثر من الغـنيمة الإياب، وبعـد غـيابه عـن أنظارهم يقتسمون السلع فيما بينهم (قسمة حلالية)، ولامين شاف ولامين دري..
يغـادر المسجد وعـلى وجهه عـلائم التقى، متمتماً بأدعـية لاتنتهي إلى أن يصل إلى أول عـربة لبيع البرتقال، هنا تعـلو الأصوات وتتصاعـد الأيمان، وتبدأ عـملية البحث والمفاصلة أثناء العـراك والإقناع..
ممسكاً بيد محبوبته، متغـزّلاً بأرق العـبارات، وعـيونه تبحث يمنةً ويسرة عـن صيد آخر، ولسان حاله يقول "إي مرحبا حب"..!!
مجموعـة تمارس القمار في مقهى رمادي غـير مرخـّص، يصرّ أحدهم قبيل رمي النرد أن يتفاءل بقوله – بقلبٍ مجروح: "يارب"!!
شيخٌ وقور يظل ينافق متمسكـاً بأهداب الدين في أحاديثه، ولما تعـلق صنارة الصيد، ويحظى بشريكٍ مدهن، يبرز أنيابه.. ولدى سؤاله عـن شنيع ممارساته، يجيب بهدوء: "التجارة..شطارة، ويسيء تفسير قوله تعـالى:
"الله حرّم الربا، وأحلّ البيع"...
معـامل ترفق بسلعـها نشرة بالمحتويات، ولابد أنّ هنالك أخطاء "مطبعـية تتحدث عـن بضاعـة لاتمسها الأيدي، وبضاعـة للإستهلاك البشري، وهي عـن ذلك في تمام البـُعـد..
حكاية ٌ في هذه السياق:
سأل الأول صديقه: هل صحيح ُ نبأ فوز براتيسلاف في الأسبوع الماضي بعـشرة آلاف دولار بطولة أوروبا للشطرنج؟، أجاب: صحيح تماماً لولا أنـّه: إيجور وليس براتيسلاف، والشهر قبل الماضي لا الأسبوع الماضي، وفي النرد لا الشطرنج، وعـن روسيا لا أوروبا، وألف فقط ليس عـشرة آلاف، وروبل ليس دولار، وأخيراً لقد خسر.. لم يربح!!!!!!!
ختاماً: هل نحن أمة تعـاني من مرض الفصام؟ والمصيبة أننا تعـودنا تلكم الممارسات، فلم تعـُد تحرّك عـرقاً في جسدنا...
تصعـد لسيارة تكسي وخلال مشوارك الطويل تستمع للحديث الديني الصباحي ممزوجاًًً بهزة رأس السائق وإعـجابه بموافقته عـلى المضامين، وتصل لمقصدك، تراه أهمل العـداد، وعـمل "ابو عـلي": وحلف أغـلظ الأيمان.
"إنوّ مابتوفـّي"، مرفقة ً بالعـبارة الشهيرة: إذا ماعـجبك اشتكي، ولكن.. الشكوى لغـير الله مذلـّة، مابعـدها مذلـّة..
المصدر: صحيفة تشرين إرسال الى صديق عــودة
|